النظــرات

من قرن إلى قرن

د.م. عدنان وحود

قرأت في كتاب ”النظرات “ للمنفلوطي مقطوعة أدبية(1) ، يواسي فيها المنفلوطي تلميذاً أصابه الصمم وهو في السابعة عشرة من عمره . في هذه النظرة يعبرالأديب اللغوي عن إحساسه نحوه ، وعن إحساس التلميذ لعالمه الجديد من حوله ، وقد ذهب سمعه . تعال معي بداية أيها القارئ الكريم ، لنقرأ بتمعن جزءاً من هذا الرثاء :

(لقد انقطع عنك بفقد سمعك أيها البائس المسكين كل ما كان بينك وبين الناس جميعاً من سبب وصلة ، فأصبحت وأنت في دار الأنس والاجتماع وبين ضوضاء الحياة وضجيجها ، كأنك تعيش من وحشتك وكآبتك في مدينة متحجرة من مدن التاريخ القديم لا تأنس فيها بأحد ولا يأنس بك فيها أحد ، ولا ترى بين يديك إلا نصباً ماثلة وتماثيل جامدة :

تحسـب العين أنهم جِدُّ أحياءِ

 

لهم بينهـم إشـارة خـرس

لا يرفّه عن نفسك في ساعة من ساعات ضيقك وضجرك نغمة غناء ، ولا رنةُ حداء ، ولا خرير نهر ، ولا تغريد طير ، ولا حفيف شجر ، ولا زفيف ريح ، ولا ثُغاء شاة ، ولا نعيق ضفدع ، ولا صرير جندب ، سواء لديك ليلك ونهارك ، وصبحك ومساؤك ، ويقظتك ومنامك ، فإن فررت من وحشتك هذه إلى مجتمع من مجتمعات العامة فجلست إلى الناس ساعة تتفرج فيها مما بك لا تسمع شيئاً مما يقولون ولا يعنيهم أن يسمعوا شيئاً مما تقول ) .

بعدما قرأت هذا الوصف ، الذي حاول كاتبه ، أن يدخل إلى سريرة من أصابه داء الصمم ، فعبرعن هذه الأسارير أروع تعبير ، قلت في نفسي :

أين المنفلوطي من أحوال عالمنا ، وما جرى ، ويجري لنا وبنا هذه الأيام ؟ على سبيل المثال من حالة ”وضّاح“ العربي الأصل ، المقيم في المغترب ، الذي تعرفت عليه قبل زهاء عامين ، وهو طريح السرير ، في دار للعناية بالمرضى الذين لا يرجى شفاؤهم ، بعد أن أصابته أزمة دماغية ، أعطبت أجزاء كبيرة من دماغه ، فشلّت يده اليمنى ، فأصبحت مقبوضة إلى عنقه ، وأخلّت في وظائف أطرافه ، فلا يستطيع ، أن يقف على قدميه ، أو أن يمشي بواسطتهما ، ولا يستطيع أن يستخدم يده اليسرى لقضاء أي من احتياجاته ، وأصابت وظيفة الفم والبلعوم بأذى كبير، فذهبت بقدرته على النطق والمضغ والبلع والتنفس الطبيعي ، فأصبح يغذى بالسوائلالمغذية ، التي تضخ عن طريق قثطرة ، تمر عبر جدار البطن ، لتنتهي الى المعدة، ويتنفس بواسطة فتحة إضافية ، أنشئت له في القصبة الهوائية تحت الحنجرة .

وضّاح طريح السرير ، بجسده ، وما تَبَقّى له من حواسه .. وما أقلها . فهو يستطيع ، إذا كنت في مرمى نظره ، أن يتابعك بعينيه بقدر محدود ، وهو يبتسم لك ، عندما تصل لزيارته . إذا تحدثت إليه بأخبار ، يمكنك أن تستشعر شيئاً من تأثره ولكن ليس بالشكل الواضح . سألت الطبيب : عما تبقى من حواسّه وقدراته ؟ فقال: إنه  يُقَدِّر بأنه يرانا ، ويسمعنا ، ولو بشكل منقوص ، وأن حيِّزاً من ذاكرته ما زال فاعلاً ، وأن انفعالاته نحو محيطه أصبحت محدودة جداً ، فهي ما نلاحظه عليه من انفراج سريرته بالابتسامة ، ومن انقباض واحمرار وجهه عند الحزن ..

هنا أتوقف وأقول : أين المنفلوطي وأمثاله، ليروا ما وصل إليه العلم والتكنولوجيا ، وأصبحت عليه أحوال الإنسان في عالمه المتطور ؟! .. صحيح أن الإنسان أصبح يستطيع خلال بضع ساعات من الزمن ، أن ينتقل من الشرق الأوسط إلى أوروبا ، أو إلى أمريكا ، أو إلى أواسط آسيا . وصحيح أن الإنسان أصبح يستطيع ، أن يتابع ، ويرى عبر الشاشة المرئية ، ما يجري ، وما يحدث في العديد من بقاع الأرض في آن واحد . وصحيح أن الإنسان  أصبح يستطيع ، أن يكون بواسطة الشبكة العنكبوتية قارئاً ومقروءاً ، وسامعاً ومسموعاً ، وشاهداً ومشاهداً في جميع أصقاع الأرض الموصولة بهذه الشبكة ، وصحيح ، وصحيح .. الطب الحديث أصبح بمقدوره ، أن يبدل كلية بكلية ، وكبداً بكبد ، وقلباً بقلب ، وأن ينقذ أحياناً حياة الإنسان -بإذن الله- بعد أزمة صحية ، فيستبقيه على قيد الحياة ، ما شاء الله له أن يبقى ، ويستنقذ له ، ما يستطيع أن ينقذ من وظائف جسمه وحواسّه -بمشيئة الله وبما توصل الإنسان إليه من العلم ومن الوسائل والتقنيات الحديثة- طالما أن قلبه ينبض ، وتنفسه ولو بشكل منقوص يجري . في كثير من الأحوال ، يُستبقى المريض على الحياة ، دون أن يكون له إرادة على قبول أو رفض دواء أو علاج . كل ما هنالك يقوم الأطباء ، بما توصلوا إليه من علم ، وما يستخدمونه من وسائل وتقنيات حديثة ، بالتعامل مع المريض في كثير من الأحيان كجسد فقط .

حال وضّاح، كحال إنسان ، ما إن سقط في بئر، واستقر به ، حتى وقع لوح فوق فُوَهة البئر ، وأَحكم إغلاقها .. اللوح من ناحية ثقيل جداً ، يصعب أو يستحيل إزالته،سوى أنه أمكن مدُّ خرطوم ، ليصل إلى معدة وضّاح ليغذيها ، ويتابع وضّاح حياته ، ومن ناحية أخرى شفاف ضئيل الشفافية ، فلا ينفذ عَبْره إلا القليل ، فيفصل وضّاح عن عالمه المعتاد فصلاً شبه كامل ، فلا يستطيع أن يسمع ويرى ويتابع ما يدور حوله إلا بشكل جزئي . إنّ ما بقي له من ذاكرته ، يُحَرّض سريرته على الفرح والحزن .

في بئره لا يستطيع وضّاح ، أن يأكل إذا جاع ، أو يشرب إذا عطش ، أو أن يعرب عن أي رغبة ، أو طلب ، أو استنجاد إذا ألم به وجع ، أو برد ، أو حر ، أو خوف ، أو ملل ، أو ضجر ، أو شوق ، أو شهوة .

وضّاح في بئره ، كأنه خرج في معظمه من الحياة الدنيا . فهو يتدلى بمعظمه أكثر إلى القبر ، منه إلى الحياة العادية . وقد يراوح على هذه الحال الشهر تلو الشهر ، والسنة تلو السنة .

في البئر حَيّزُ حركة وضّاح ضيق جداً ، ولا ندري عما نشاهده عليه من حركات إرادية كانت أم غير إرادية . إذا عادت ذاكرته به إلى طعام أو شراب ، فلا سبيل لأن يعبّر عن ذلك من خلال هذا اللوح الذي يفصله عن عالمه القديم ، فهو لا يرى سوى أناس يرتدون -في غالب الأحيان- اللباس الأبيض ، ينشطون حوله ذهاباً وإياباً ، في أوقات متقاربة أو متباعدة ، لا يستطيع أن يبادرهم بتحية أو شتيمة معبراً عن رضى أو غضب . أحياناً يلمح وضّاح زوجته وأبناءه ، وقد يسمع بعض ما يوجهون إليه من تحية ونداء ودعاء بالشفاء ، وأنهم بخير ومشتاقون لعودته إليهم ، وأن إخوانه وأخواته وأقاربه في الشرق يهدونه السلام ، ويتمنون له الشفاء العاجل . في هذه المواقف لا ترى على وجه وضّاح ، سوى ابتسامة أحياناً ، أو اضطراباً ، أو احمراراً للوجه ، أو حركات يجريها بيده ورأسه على غير هدى ، أحياناً أخرى .

مُحدّث وضّاح لا يدري ، ما يجدر به الحديث معه ، أو ما لا يجدر ، ما يمكن أن يسره ، أو ما يمكن أن يغضبه ، وسرعان ما يملّ محدّث وضّاح الحديث إليه . في الأغلب يختصر معجم الكلام على :

-       كيف حالك

-       الله يعافيك

-       وإن شاء الله بخير .

في هذه العزلة كيف يشعر وضّاح مع ما بقي لديه من أحاسيس ومشاعر بالزمن ؟

كيف يقضي ساعات اليوم وأيام الأسبوع وأسابيع الشهر وشهور السنة والسنة تلو السنة ؟

هل يميّز بين الليل والنهار ، وبين الشتاء والصيف ؟

وضّاح باقٍ على قيد الحياة بإذن الله ، ثم بعناية ما توصل إليه العلم، وبفعل ما يُستخدم من وسائل وتقنيات حديثة، وهولا يستطيع ، أن يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، ولا أن يأكل مما تُنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ، ولا أن يمشي في مناكبها ، ولا أن يجهر بالقول .  

ملحق
وضاح اسم افتراضي لإنسان عربي ولد في بلد عربي وانتقل في شبابه إلى أوروبا باحثا عن أفق جديدة للعمل والعيش الأفضل .. ربما استطاع ولو بعد حين العودة بما يمكن أن يحصده في بلاد الغربة إلى وطنه الأم .. ليحسن من وضعه ومكانته في وطنه .. لكنه بالتأكيد قد أخفق في تحقيق مثل هذه الأمنية .. وعاجله المرض فاقعده في شهر آذار 2007 وبقي على الحالة المرضية التي وصفتها هذه الكلمات اللاحقة حتى تاريخ 1 رمضان الموافق  20 تموز 2012 .. كم كانت ساعات وأيام وأسابيع وأشهر وسنوات وضاح طويلة وقاسية .. وهو في سرير المرض منتظرا على حافة قبره .. لقد كان جسمه في هذه الأيام قد تدلى أكثره إلى القبر .. منه ما تبقى خارج القبر .. في يوم الخميس آخر أيام شعبان كان يلفظ أنفاسه الأخيرة بعناء وجهد .. إلى أن دخل يوم الجمعة عليه ولفظ نفسه الأخير .. وعندما وصلت له في الصباح كان جثمان وضاح  مسجى .. ونفسه وروحه قد خلصت إلى بارئها .. هنالك دعوت الله مخلصا أن يتغمده في واسع رحمته .. وأن يزيد في حسناته ويتجاوز عن سيئاته .. بعد النظرة الأخيرة على جثمان  وضاح وهو مسجى .. غادر جثمان وضاح إلى وطنه الأول مسقط رأسه ليدفن في تراب مولده ويعانق أرض وطنه الذي عاش بعيدا عنه .. لقد قامت الدولة الألمانية بما لديها من مؤسسات اجتماعية وإنسانية بالاعتناء بوضاح أحسن اعتناء .. في الجهة المقابلة .. تخلت دولة مولده عنه تماما .. سوى استعدادها لتقبل جثته هامدة ولإيداعها في مثواها الأخير .. أما أهل وضاح كانوا هم في واد وهو في واد آخر .. سوى ابن أخت له كان يسأل عنه بين الفينة والأخرى .. ويتحرق لما أصاب خاله في غربته .. ويندب تخاذل أخواله الآخرين في السؤال عن أخيهم ابن أمهم وأبيهم .. ناهيك عن القيام بواجبهم تجاهه

(1) عن كتاب النظرات - مصطفى لطفي المنفلوطي - كتبت هذه النظرة في عام 1916م